أهم الأخبارالخبر الرئيسيتقارير

طالبان وحذف الصور من الفضاء الحضري في مدن أفغانستان

في العديد من مدن أفغانستان، هناك شيء يختفي تدريجياً؛ ليس فجأة أو بصخب، بل بهدوء وبشكل طبقي.

الوجوه التي اختفت من لافتات المحلات، التماثيل التي لم تعد في الساحات، الدمى التي بلا وجوه والحدائق التي خلت من الألوان والأشكال. ما يسميه طالبان “الإصلاح الشرعي”، يتحول عمليًا إلى حذف تدريجي لتجسيد الكائنات ذوات الروح من الفضاء العام؛ سياسة لا تغير فقط مظهر المدن، بل تغير علاقة المجتمع بالصورة والجسد والذاكرة البصرية.

الجذور الأيديولوجية؛ الصورة كتحريف

حظر الصورة والتماثيل في فكر طالبان ليس سياسة جديدة أو رد فعل مؤقت. هذا النهج مستمد من تفسير متشدد للشريعة التي تعتبر تجسيد الكائنات ذوات الروح تمثيلاً لـ “التشبه بالخلق” وفي النهاية يؤدي إلى الشرك.

في هذا الإطار الفكري، الصورة ليست أداة فنية أو ثقافية بل أمر يحتمل أن يكون خطيراً؛ شيء يمكن أن يُستخدم، يُرى، ويُحتفظ به في الذاكرة. لهذا السبب، لطالما كان لدى طالبان مشكلة مع التماثيل والصور والأشكال الإنسانية منذ فترة حكمهم الأولى وحتى اليوم.

من باميان إلى المدن الحالية؛ استمرارية منطق واحد

يُروى في العادة عن تدمير تماثيل بوذا في باميان عام 2001 كعمل استثنائي وتاريخي، لكن سياسات طالبان الحالية تشير إلى أن هذا كان جزءاً من منطق مستمر؛ منطق اليوم يُمارس ليس بالتفجير وإنما بالإزالة التدريجية و “الإصلاح”.

في الأشهر والسنوات الأخيرة، تمت إزالة أو تغطية أو اختفاء تماثيل المدن في مناطق مختلفة من أفغانستان غالباً دون شرح. تتم هذه الإزالات بصمت؛ من دون إعلان رسمي، دون نقاش شعبي ودون بدائل.

هذه السياسة لم تقتصر فقط على الرموز الكبيرة، ففي بعض الحدائق والأماكن الترفيهية، جُمعت الألعاب التي تحمل وجوهاً إنسانية أو حيوانية أو تم تغطية وجوهها تدريجياً. الأرجوحات، التماثيل الكرتونية والعناصر الزخرفية للأطفال تُزال تباعاً.

النتيجة حدائق لا تزال موجودة، لكنها أصبحت فارغة بصرياً؛ فضاءات كان من المفترض أن تكون مبهجة ومخصصة للأطفال، لكنها اليوم محايدة وبلا وجوه.

واحدة من أبرز تجليات هذه السياسة تظهر في الأسواق والشوارع التجارية، حيث اللوحات الإعلانية للحلاقين، متاجر الملابس، وصالونات التجميل وبعض المتاجر التي كانت تُعرف سابقاً بصور النساء، إما بلا صور الآن أو تُغطى الوجوه بالكامل.

في كثير من الحالات، جرى هذا التغيير ليس بأمر مكتوب، بل بضغوط شفوية وتحذيرات محلية. والنتيجة توحيد بصري للشوارع وحذف جسد المرأة من المشهد العام.

فضاء عام بلا صور؛ كيف تتغير المدينة؟

حذف صور الكائنات ذوات الروح ليس مجرد تغيير في مظهر المدينة؛ فهذه السياسة تؤثر مباشرة على طريقة تجربة الفضاء العام. عند إزالة الوجوه، التماثيل والرموز البشرية من الساحات والحدائق والشوارع، تفقد المدينة تدريجياً جزءاً من لغتها البصرية؛ لغة تعكس التاريخ والهوية والحياة اليومية.

بالغياب الصورة، يقل التنوع البصري للمدن وتصبح الفضاءات العامة محايدة وغير مميزة. الساحات تتشابه، الحدائق تفرغ من عناصر السرد، والشوارع تتحول إلى طرق عبور فقط. هذا المسار لا يضعف فقط الذاكرة التاريخية والثقافية للمدينة، بل يضعف أيضاً العلاقة بين المواطن والفضاءات التي يعيش فيها.

في هذا الفضاء، لا يزال الإنسان حاضراً لكنه غير ممثل. يُحذف الجسد والوجه من ملامح المدينة ويصبح رؤية الإنسان تجربة محدودة وخاصة. تدريجياً، تخلو المدينة من العلامات الإنسانية ليس لغياب الناس، بل لحظر رؤيتهم. هذا الحذف لا يخلق صمتاً فحسب، بل يخلق فراغاً بصرياً يتحول بدوره إلى شكل من أشكال المعنى.

خلاصة

أفغانستان اليوم تشهد تحولاً هادئاً وعميقاً في الفضاء العام؛ حيث تُحذف صور الكائنات ذوات الروح خطوة بخطوة من مظهر المدن. الساحات تبقى بلا تماثيل، الحدائق تفقد الوجوه، لافتات المحلات تصبح بلا صور، وحتى عناصر ألعاب الأطفال تخضع للمنع. هذه الإزالات ليست عشوائية، بل سياسة منظمة لإعادة تعريف ما يُسمح برؤيته.

ما يُمحى في هذا المسار ليس مجرد تمثال أو صورة، بل هو الحذف التدريجي لتمثيل الإنسان في الفضاء المشترك. تقليل حضور الجسد، الوجه والذاكرة في المدينة. مدينة يعيش فيها الإنسان ولكنه أقل ظهوراً، مدينة تُمحى معانيها بدلاً من أن تُبنى. هذا التقرير يتحدث في نهاية المطاف عن هذا الفراغ: فراغ يتشكل في صمت ويغير ملامح المدينة دون أن تُدمر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى