الخبر الرئيسيتقارير

تناقض بين نمو الاقتصاد والفقر في أفغانستان: نمو رقمي وركود في الشارع

في الأشهر الأخيرة، صدرت تقارير من بعض المؤسسات الاقتصادية تشير إلى «نمو اقتصادي معتدل» في أفغانستان خلال عامي 2024 و2025، وهو نمو اعتُبر من قبل بعض المحللين مؤشراً على «الاستقرار النسبي» بعد الانهيار الاقتصادي عام 2021.

لكن الواقع اليومي وحياة المواطنين تروي قصة مختلفة تمامًا: موائد تزداد ضيقًا يومًا بعد يوم، وعمال يبحثون عن العمل لأسابيع دون جدوى، وعائلات عاجزة عن تأمين قوت يومها، وشباب لا يرون في الأفق أي مستقبل مشرق.

بات هذا التباين بين «الإحصاءات» و«الحياة الواقعية» أحد أبرز تناقضات اقتصاد أفغانستان، ما يثير تساؤلات جادة حول أسس هذا النمو واستدامته.

اقتصاد منفصل عن العالم: نمو في فراغ دولي

تمر أفغانستان اليوم بفترة من العزلة السياسية غير مسبوقة؛ فحكومة طالبان لم تنل اعترافًا من أي دولة (باستثناء روسيا)، وتوقفت نسبة كبيرة من التعاملات الدولية، والاستثمارات الأجنبية، والوصول إلى الأسواق العالمية أو أصبحت محدودة للغاية.

وقد انعكست هذه العزلة مباشرة على الاقتصاد:

– تراجع الاستثمارات الأجنبية إلى ما يقارب الصفر
– اضطراب في حركة الأموال والتجارة الرسمية
– عجز البنوك عن التواصل مع النظام المالي العالمي
– تراجع حاد بالمساعدات الدولية التي كانت تشكل العمود الفقري للميزانية والخدمات العامة

رغم ذلك، سجّل الاقتصاد الأفغاني نوعًا من «النمو الإحصائي» الناجم إلى حد كبير عن استقرار نسبي في الأسعار، وإدارة محدودة للصادرات، وجهد لضبط سوق العملات. ولكنه نمو داخلي في دائرة مغلقة، لا يعكس ديناميكية اقتصادية حقيقية، ويعجز عن إطلاق الطاقات الكاملة للاقتصاد في ظل عدم الانفتاح العالمي.

فقر شامل: الواقع يتحدى النمو الرقمي

وفق تقديرات موثوقة دولية، يعيش أكثر من نصف سكان أفغانستان تحت خط الفقر. فبينما يُظهر الاقتصاد نموًا شكليًا، لا تنعكس هذه المؤشرات على المستوى المعيشي للأسر. وتشير مؤشرات الأزمة اليومية إلى:

– بطالة واسعة، خصوصًا في صفوف الشباب
– ارتفاع أسعار المواد الغذائية في بعض الولايات
– تراجع القوة الشرائية
– تفاقم انعدام الأمن الغذائي في الأرياف والمناطق المتأثرة بالجفاف
– ازدياد عمالة الأطفال كوسيلة للبقاء
– تصاعد الهجرة الداخلية بفعل الفقر وانعدام الفرص

وباختصار، فإن النمو الاقتصادي – إن وُجد – لا يزال غير متوازن، ويُرى فقط في الأرقام الكلية ولا يصل إلى موائد الناس.

اقتصاد على أكتاف الفقراء: المعيشة تزداد صعوبة

من خلال مقابلات مع المواطنين، تتضح الصورة أكثر: التجار في أسواق كابول يؤكدون تراجع مداخيلهم مقارنة بما قبل عامين، في حين أن التكاليف ازدادت. وعمال الأجرة في هرات أحيانًا لا يجدون عملًا حتى لساعة واحدة في اليوم. أما في بدخشان وغور، فتضطر بعض العائلات إلى بيع ممتلكاتها الصغيرة لشراء الخبز.

كل هذه المعطيات توضح للمحللين أن «النمو الاقتصادي الرسمي» لا يزال عاجزًا عن تحريك عجلة الحياة المعيشية.

أسباب هشاشة النمو: أربعة أعمدة تتداعى

1. غياب الاستثمار والإنتاج المستدام
في ظل غياب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وغياب الأمان القانوني والسياسي، أصبح القطاع الخاص مترددًا وغير نشط.

2. الاعتماد الزائد على صادرات محدودة
يتعلق الجزء الأكبر من صادرات أفغانستان بمنتجات معدنية وزراعية وسلع منخفضة القيمة المضافة، ما يجعلها عرضة لتقلب الأسعار واضطراب طرق التصدير.

3. انهيار النظام المصرفي الرسمي
أدت القيود على الوصول للاحتياطات الأجنبية، والعقوبات المالية، والمحدودية في المعاملات إلى لجوء المواطنين والتجار إلى الشبكات غير الرسمية، ما يجعل الاقتصاد هشًّا.

4. تراجع الدعم الدولي
قبل عام 2021، كانت المساعدات الأجنبية تموّل الخدمات العامة الأساسية. ومن دونها، تواجه قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية أزمة خطيرة.

روايتان لاقتصاد واحد: ماذا تقول الحكومة، وماذا يرى الشارع؟

غالبًا ما تتحدث طالبان عن «الاستقرار الاقتصادي» و«ضبط التضخم» و«دعم الإنتاج المحلي»، لكن الواقع عكس ذلك. يقول خبراء إن تراجع التضخم ناتج عن انخفاض الطلب وضعف القدرة الشرائية، وليس عن سياسات اقتصادية فعالة. كما أن نمو الصادرات لا يعود لتطور الإنتاج، بل لمجرد استخراج الخام من الموارد المعدنية، وهو غير مستدام.

ما هو المستقبل؟ ثلاثة سيناريوهات محتملة لاقتصاد أفغانستان

يرى المحللون أن الاقتصاد يقف عند مفترق طرق حاسم، قد يُبقي البلاد في ركود طويل أو يفتح الباب أمام تحسّن تدريجي. وتُرسم ثلاثة مسارات محتملة:

1. السيناريو الأول: استمرار الوضع الحالي — ركود مزمن وترسيخ الفقر
في هذا المسار، لن يحدث تغيير في الهيكل الاقتصادي أو العلاقات الدولية. يظل الاقتصاد ساكنًا ومحدود الإنتاجية، وتستمر البطالة مرتفعة، ويُصبح الفقر حالة «اعتيادية». إنه مسار لاقتصاد متجمد لا يتحرك نحو الأمام.

2. السيناريو الثاني: تفاعل محدود مع العالم — انفتاحات صغيرة ولكن فعالة
من دون اعتراف رسمي، تتعامل أفغانستان إقليميًا عبر التجارة الحدودية، ومبادرات ترانزيت، واتفاقيات تجارية مع الدول المجاورة. قد يخفف هذا المسار من شدة العزلة، ويحسّن التوظيف والصادرات بدرجة بسيطة، لكنه لا يكفي لتحقيق نمو فعلي أو استدامة اقتصادية. إنه فقط «التقاط أنفاس»، لا «إحياء» حقيقي.

3. السيناريو الثالث: الاندماج التدريجي في النظام المالي العالمي — مسار صعب لكنه مستدام
في هذا الخيار، تنفذ أفغانستان إصلاحات هيكلية، وتعيد صياغة قوانينها الاقتصادية، وتخلق بيئة آمنة للمستثمرين، ما يمكنها من الانضمام مجددًا لشبكات المال والتجارة العالمية. النتيجة: استعادة الاستثمارات، إنعاش الإنتاج، زيادة إيرادات الدولة، وخلق فرص عمل ثابتة. لكن هذا المسار يتطلب تغييرات عميقة تشمل تحسين الحوكمة، وضمان الحقوق الاقتصادية، والشفافية، وبناء الثقة دوليًا.

الخلاصة: اقتصاد عند مفترق مصيري

تواجه أفغانستان اليوم أحد أكثر المنعطفات حساسية في عقدين من الزمن. تشير الأرقام الرسمية إلى «نمو»، غير أن حياة الناس تعكس فقط «فقرًا مزمنًا». الفجوة بين البيانات والواقع دفعت بالبلاد إلى لحظة حاسمة: إما الاستمرار في دوامة الضعف والانكماش، أو تبنّي إصلاحات جذرية وتفاعل استراتيجي مع الاقتصاد العالمي لفتح نافذة جديدة من الأمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى