أهم الأخبارتقاريرثقافة

لغات مهددة بالاندثار: لغات أورمُري والباشايي واللغات الباميرية تواجه خطر الصمت في أفغانستان

تواجه أفغانستان مجدداً أحد أبرز تحدياتها الثقافية، والمتمثل في تراجع انتقال اللغات المحلية بين الأجيال. فمن مناطق هلمند النائية إلى وديان بدخشان العميقة، تعيش لغات مصنفة من قبل اليونسكو بأنها “مهددة” أو “مهددة بشدة”.

أورمُري، باشايي، واللغات الباميرية تُعد أمثلة بارزة لهذه اللغات، وهي أكثر من مجرد أدوات تواصل؛ إنها حاملة تاريخ وهوية وذاكرة جماعية، ويعني فقدانها إسكات جزء بالغ الأهمية من الثقافة الأفغانية.

خريطة تنطفئ تدريجياً

تخيل أن الجدات في وادٍ منعزل ما زلن يتحدثن بلغة لا تُدرّس في أي مدرسة، بينما لا تستطيع الأجيال الجديدة داخل نفس المنزل تعلمها بشكل سليم.

لغة أورمري، وهي لغة نادرة في جنوب شرق أفغانستان وأجزاء من باكستان، لا يتحدث بها سوى بضعة آلاف اليوم، وقد دفعتها الهجرة وضغط اللغات السائدة وغياب التعليم الرسمي إلى حافة الانقراض.

الأمر ذاته ينطبق على فروع متعددة من لغة باشايي واللغات الباميرية. أظهرت الدراسات أن العديد من الأطفال الذين وُلدوا خلال العقود الأخيرة لم يتعلموا هذه اللغات بشكل كافٍ. وتُعد أفغانستان فسيفساءً لغوية تضم مئات اللغات تختلف أوضاعها بين “مستقرة” و”حرجة”.

خمسة عوامل رئيسية لتراجع نقل اللغات:

1. الهجرة والنزوح:

بعد عقود من الحروب والتغيرات السياسية، أدت موجات الهجرة الداخلية والخارجية إلى تشتيت المجتمعات الناطقة. العائلات التي هاجرت إلى المدن أو الدول المجاورة اضطرت لتعلم لغة البيئة الجديدة لضمان التكيف والبقاء، مما قلّل نقل اللغة الأم للأبناء.

الطفل الذي ينشأ في كابل أو طهران أو بيشاور، يتعرض بشكل أقل للغته المحلية، مما يخلق فجوة بين الأجيال ويحرم الجيل التالي من ذاكرة لغوية مهمة. الهجرة، لا سيما بين الأقليات الصغيرة، تسرّع وتيرة انقراض اللغات.

2. نظام تعليمي محدود وغير متعدد اللغات:

تعتمد المدارس الرسمية في أفغانستان بشكل أساسي على لغتي الداري والبشتو، دون برامج تعليمية تدعم اللغات المحلية. هذا الأمر يدفع بالأهالي لتفضيل اللغة السائدة من أجل مستقبل أبنائهم الاقتصادي، ما يُقصي اللغات المحلية من الاستخدام المنزلي.

وقد بيّنت الأبحاث أن غياب التعليم الرسمي بلغة الأم، يمثل عاملاً مؤثراً في تسريع تراجع انتقال اللغة بين الأجيال. حتى في حال رغبة الأهل، فإن الهيكل التعليمي الحالي لا يتيح تعليم الأطفال بلغتهم الأصلية.

3. الضغط الاجتماعي والوصم:

في كثير من المناطق، يُنظر إلى استخدام اللغة المحلية على أنه دليل على “التخلف” أو “الجهل”، ويتعرض الأطفال للسخرية في المدارس، ما يدفع المراهقين إلى إخفاء لهجاتهم وكلماتهم المحلية. في محاولة لتجنب التهميش الاقتصادي والاجتماعي، يفضّل الأهل تعليم الأبناء اللغة السائدة.

هذا النوع من “الرقابة الذاتية الثقافية” يؤدي تدريجياً إلى نسيان لغة المنزل. فتصبح اللغة الأم ضحية الهوية الاجتماعية والاقتصادية، لا وسيلة للتواصل فحسب.

4. السياسات اللغوية والإيديولوجية:

عبر الحقب المختلفة، سعت السلطات الرسمية والجماعات الحاكمة إلى تعزيز اللغات السائدة وتهميش اللغات الصغرى. فقد قلّصت القيود على وسائل الإعلام، وبُني النظام التعليمي بطريقة تستبعد اللغات المحلية من المؤسسات الرسمية، مما حرم هذه اللغات من فرص البقاء.

وفي السنوات الأخيرة، أثّر التركيز على التعليم باللغات الرسمية وتقليص وصول الإعلام المحلي على مستوى الحافز لدى العائلات للحفاظ على اللغات التهالكة.

5. غياب التوثيق والحضور الرقمي:

في عصر الرقمنة، تغيب اللغات التي لا وجود لها على الإنترنت تدريجياً عن الذاكرة والحياة اليومية. كثير من لغات أفغانستان لا تمتلك كتباً أو تطبيقات أو قنوات تعليمية، ما يجعل توثيقها مستقبلاً شبه مستحيل.

المشاريع التي تسعى لتسجيل الصوتيات أو إصدار كتيبات أو إنتاج محتوى رقمي ما تزال محدودة للغاية. ويُعد هذا الضعف أحد أبرز التهديدات لإعادة إنتاج اللغة عبر الأجيال القادمة.

الفقر والضغط الاقتصادي: دورة مدمرة

الفقر لا يفرغ البطون فحسب، بل يخنق اللغة أيضاً. فالعائلات المشغولة بكدّ اليوم ومهام الهجرة تفتقد الوقت والدافع لتعريف الأبناء بلغتها الأم. الهجرة إلى المدن، الضغوط الاقتصادية، ونقص الوسائل التعليمية جميعها تساهم في تقليص استخدام اللغات المحلية يومياً.

وإذا استمر هذا المسار دون تدخل، فلن يتهدد وجود هذه اللغات فقط، بل وجود الهوية الثقافية للمجتمعات الصغيرة أيضاً.

دور طالبان والسياسات اللغوية الراهنة

زادت سياسات طالبان التي تقيد الأنشطة الثقافية والتعليمية من صعوبة الواقع بالنسبة للغات الصغرى. فبرامج التعليم المحدودة وتركيزها على اللغات الرسمية، إلى جانب غياب الدعم لعمليات التوثيق والإعلام المحلي، جعلت جهود إحياء هذه اللغات شبه مستحيلة.

في هذا السياق، تبقى العائلات والمجتمع المدني حراس اللغة الوحيدين، ومع غياب الدعم المؤسسي، تتجه اللغات نحو الانقراض بسرعة.

بوارق أمل

رغم كل الضغوط، لا تزال هناك جهود قائمة:

– يواصل الباحثون المستقلون عملية التوثيق الصوتي والنصي للغات.
– انطلقت مبادرات محلية لإصدار كتيبات ومقاطع صوتية لحفظ المفردات وتعليم الأساسيات.
– يساهم مهاجرون أفغان في أوروبا وأمريكا في حماية اللغات الأم عبر إنتاج محتوى رقمي وبودكاست مخصص لها.

حتى ملف صوتي واحد قد يحمل إمكانية إعادة بناء لغة في مجال علم اللغة.

حلول عاجلة وعملية:

– تعليم ابتدائي مزدوج اللغة في مدارس المناطق المحلية.
– توثيق صوتي ونصي قبل أن تندثر الأجيال المسنّة.
– إنتاج محتوى رقمي بسيط يسهم في الاستخدام اليومي ورفع الوعي.
– دعم اقتصادي للمجتمعات المحلية لتعزيز الحافز للحفاظ على اللغة.
– التعاون مع الجاليات المهاجرة لإنتاج موارد تعليمية وثقافية.

قد تتيح هذه الإجراءات إمكانية إنقاذ اللغات المهددة بالصمت.

الخلاصة:

اللغات الصغرى في أفغانستان ليست أدوات للتواصل فقط؛ بل هي تجسيد للتاريخ والذاكرة والهوية الثقافية. فقدانها يعني خسارة جزء من التراث الجماعي. وبينما تتضافر عوامل مثل الهجرة، والفقر، والضغوط الاجتماعية، والسياسات الرسمية وغياب التوثيق، فإن الأمل لا يزال قائماً بإجراءات علمية وإرادة مشتركة لإحياء هذه اللغات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى