آراء

محاولة اغتيال الملا هبت الله.. أزمة خفية في قلب سلطة طالبان

تشير أنباء محاولة الاغتيال ضد زعيم حركة طالبان، حتى قبل تأكيد جميع تفاصيلها، إلى حقيقة هامة بحد ذاتها: لقد بلغ هيكل السلطة في أفغانستان مرحلة لم يعد معها حتى “الاستقرار الرمزي” للقيادة مضمونًا.

على مدى السنوات الثلاث الماضية، سعت طالبان إلى تقديم صورة للتماسك التام والسلطة المطلقة من دون انقسامات، لكن الهجوم على أعلى قيادات الجماعة — بمعزل عن مدى نجاحه أو فشله — يشوّه هذه الصورة بشكل كبير. هذا النوع من الأحداث يكشف إما عن هشاشة منظومة أمن طالبان بشكل يفوق التصورات، أو عن وجود شروخ واستياء داخل الطبقات الداخلية للسلطة بلغ حد السماح باستهداف الرجل الأول في الحكم.

لطالما كان الملا هبت الله شخصية غامضة ونائية عن الأنظار، نادرًا ما يظهر في المناسبات العامة، ويعيش ضمن دائرة ضيقة. وفي البُنى السرية والطائفية، غالبًا ما يسهم بُعد القائد عن الحضور العلني في توفير مزيد من الأمان له؛ غير أن هذا الانعزال قد يؤدي أيضًا إلى تراكم قرارات تُحدث سخطًا عامًا، وتُضعف بدورها الحالة الأمنية.

على مدى السنوات الأخيرة، فرضت طالبان قاعدة تَركّز تقوم على تركيز السلطة في قندهار، والتخلص التدريجي من الوجوه المنافسة، واتباع سياسات صارمة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية. مثل هذا التَركّز بطبيعته يفرز داخلَه حالة من التنافس والرفض، وربما حتى الرغبة في الإقصاء. وعادةً ما تحدث محاولات اغتيال زعماء الحركات عندما تبلغ الخلافات ذروتها أو تنهار الحلقات الأمنية.

تتجلّى أهمية هذا الحدث أيضًا في تأثيراته المحتملة على التماسك الداخلي لطالبان. فالحركة لا تستمد شرعيتها السياسية من صناديق الاقتراع، بل من “صورة القوة” – تلك القائمة على عصمة الزعيم وقداسة الهيكل التنظيمي. أي تصدّع في هذه الصورة، لا سيما إن طال زعيم الجماعة، من شأنه أن يوسّع الانشقاقات الداخلية ويهز ثقة الصفوف ببعضها.

حتى إن حاولت طالبان التهوين من الحادث أو نشرت روايات موجهة، فإن أثره النفسي يبقى قائمًا داخليًا ويؤثر في حسابات الأجنحة والقادة الميدانيين. في البُنى العقائدية والقبلية، تكون الإشاعة في بعض الأحيان أشد وقعًا من الحدث عينه؛ والآن، دخلت هذه الواقعة ذلك المسار نفسه.

كما تمثل محاولة اغتيال هبت الله إشارةً إلى تغيّر في النموذج الأمني في أفغانستان؛ فطالبان منذ لحظة عودتها إلى الحكم قدّمت نفسها كسلطة مطلقة، وسعت إلى حصر التهديدات في “مجموعات صغيرة ومبعثرة”. لكن مجرد أن يُستهدف زعيمها، بغض النظر عن وضوح التفاصيل، يدل على أن التهديدات لم تختفِ، بل ازدادت تعقيدًا. وهذه الرسالة تُعد ذات مغزى عميق بالنسبة للمجتمع الأفغاني: الاستقرار الذي وعدت به طالبان هش حتى في أعلى مستويات السلطة.

ويُذكّر هذا الحدث بحقيقة جوهرية في السياسة الأفغانية: لا يمكن لبنية تقوم على الإقصاء والاحتكار أن تحافظ طويلًا على وحدة داخلية. فكلما ضاقت دائرة اتخاذ القرار، وسُدّت سُبل المشاركة، تحوّلت الضغوط الكامنة إلى انفجارات أمنية بدل أن تُفرَّغ بالحوار السياسي. ومحاولة الاغتيال الأخيرة تُمثل تعبيرًا واضحًا عن تراكم هذه الضغوط؛ ضغوط قد لا تكون مرئية بعد على مستوى الإعلام، لكنها تتحرك في أعماق جهاز الحكم.

وفي المحصلة، لا تمثل هذه الواقعة حادثًا أمنيًا فحسب، بل تُعد إشارة سياسية مؤثرة: لقد دخلت طالبان مرحلة جديدة لم يعد فيها “السلطان المطلق” قائمًا كما في السابق. حتى لو لم يُصب زعيم طالبان بأي أذى، وحتى إن حاولت الرواية الرسمية التعتيم وتبسيط الحدث، تبقى الحقيقة أن التصدّع قد بدأ في رمز استقرارهم؛ تصدّع قد يفتح الباب لتحوّلات كبرى في معادلات السلطة.

إن أفغانستان اليوم تُظهر أكثر من أي وقت مضى أن الاستقرار المبني على القمع لا يمكن أن يصمد، وكلما أُسكتت الأصوات، ارتفعت ضراوة الضربات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى